المـــــــزاح

هو ظاهرة نفسية أو احتياج نفسي لدى الإنسان جبل عليه عندما خلقه الله -سبحانه وتعالى- وهو أحكم الحاكمين تقوده إلى الضحك والفكاهة وتختلف من إنسان إلى آخر تبعا للتكوين النفسي والظروف والأجواء والمجتمع الذي يعيش فيه وكذلك حالة التفاؤل والابتهاج والفرح والسرور التي تنتاب شعور المرء والتوجه الفكري له ونظرته إلى الحياة وتفاعله مع أحداثها ومجرياتها وملابساتها وقوة أرادته في مواجهة تحديات الحياة وصعوباتها ومرونته في التعامل مع الأحداث والناس والحياة.
قال تعالى (..وأنه هو أضحك وأبكى…) سورة النجم الآية 43 لا تخلو الحياة الدنيا من مضايقات وهموم وغموم وأكدار تختلج في نفس الإنسان ربما يصاب بكبت داخلي (وهو احتياجه الشديد إلى شيء وعدم إمكانية إشباعه أو تلبيته) لذلك يلجأ إلى التنفيس والتخفيف والترويح عن نفسه بواسطة المزاح إما بالحركات والأفعال وإما بالأقوال والألفاظ ومنه يتأتى الضحك وإضحاك الآخرين والفكاهة..
وطريقة المزاح وتقبله من الآخرين تختلف تبعا لشخصياتهم ومستوياتهم وتوجهاتهم الثقافية ومن الممكن تقسيم المزاح إلى قسمين اثنين الأول منها هو المزاح المباح وهو ما لم يشتمل على المحرم من كذب وسخرية من الآخرين واستهزاء بهم واستهزاء بخلق الله والانتقاص من النفس وإلحاق الأذى بالناس وفي ذلك نستعرض بعض الروايات المحببة للمزاح فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (المؤمن دعب لعب والمنافق قطب غضب) وقوله أيضا (إني لامزح ولا أقول إلا حقا).
وقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قد جاءته امرأة عجوز وهي تسأل: هل تدخل العجائز الجنة (وتعني نفسها) فأجابها النبي بقوله (لا تدخل الجنة العجائز) فحزنت المرأة العجوز قليلا ثم قال لها النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) ما معناه إن الله يعيد المحسنين إلى شبابهم عند دخولهم الجنة وإنك ستدخلين الجنة بهيأة شابة لا بهيأة عجوز والثمرة من هذه الرواية أن مزاح النبي كان حقا،
أما القسم الثاني من المزاح فهو المزاح المحرم وهو ما أشتمل على الكذب والفجور وخدش الحياء (أو قتل الحياء) وإلحاق الأذى بالآخرين ويعد من آفات اللسان وأصله مذموم ومنهي عنه وسبب الذم فيه أنه يسقط المهابة والوقار وربما أدى إلى نتائج وخيمة وآثار سلبية وربما انجر إلى الهزل والسخرية والاستهزاء وأدخل صاحبه في جملة المستهزأ بهم قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالالقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون) سورة الحجرات الآية 11.
وصفة المستهزئ تلزم صاحبها بسلوك نفاقي لذلك نكل القرآن الكريم بالمستهزئين في قوله تعالى (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون) سورة البقرة الآية 14.
ومن المناسب المرور بطائفة من الروايات التي تذم وتنهى عن القسم الثاني من المزاح، فعن رسول الله الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال (يا علي لا تمزح فيذهب بهاؤك ولا تكذب فيذهب نورك) وقوله (لا تمار أخاك ولا تمازحه) وقوله (إن الرجل ليتكلم بالكلمة يضحك بها جلساءه يهوي بها أبعد من الثريا) وقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال (إياكم والمزاح فأنه يجر السخيمة ويورث الضغينة وهو السب الأصغر) وعن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال (لا تمازح فيجترأ عليك).
وبالإمكان الخروج بحصيلة من هاتين الطائفتين من الروايات وهي أن الرسول الأمجد (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) لم ينهوا عن المزاح بشكل مطلق وإنما مدحوه بشكل نسبي وضمن قيود خاصة فأن الإسلام لا يرتضي للمؤمن الهزل في كل حياته فلو أمضى المرء حياته في الضحك والمزاح لتحول ذلك إلى عادة لديه وعندئذ لا يستطيع أن يتعامل بجدية مع القضايا التي تتطلب الجد والحزم.
ومن لا يشعر بالمسئولية والتعامل بجد مع واجباته والتزاماته فليس بإمكانه أن يكون نافعا لا لنفسه ولا لمجتمعه وعليه فإن المزاح المذموم هو الإفراط فيه والمداومة عليه وما يتضمن ايذاءا وكذبا وباطلا بحيث يؤدي إلى إيذاء المؤمنين وزرع الحقد في نفوسهم كما أنه يزرع الأحقاد في نفوس الآخرين ويحطم أواصر المحبة والصداقة بين الناس وقد روي عن المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله (جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها).
وبما أن الإسلام يهدف إلى إشاعة السلام والمودة والسرور بين أفراد المجتمع وبث روح النشاط فقد حبب للمؤمنين البشاشة والمزاح مشروطة بعدم الخروج عن دائرة الحق وأن لا تلفظ فيه كلمات بذيئة تخدش الذوق الخلقي فاللجوء إلى الكذب في المزاح يخرج المرء من حيز الإيمان فالكذب ممقوت صاحبه وقد سئل النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) عن المؤمن هل يزني؟ قال: قد يزني، فقيل له يا رسول الله: هل يسرق المؤمن؟ قال: قد يسرق. فقيل له يا رسول الله: هل يكذب المؤمن؟ قال: المؤمن لا يكذب، وقال تعالى (…فنجعل لعنة الله على الكاذبين) سورة آل عمران الآية 61،
وقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله (كم من هزل عاد بالجد) و (كثرة المزاح تميت القلب مثلما كثرة الماء تميت الزرع)، وكل ما زاد عن الحد انقلب إلى الضد.
وعندما نكحل نواضرنا بمطالعة سيرة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) نجد أمثلة رفيعة من المزاح البريء الذي يدخل البهجة إلى النفس ويشيع البسمة في الوجوه مع عدم خروجهم عن الحق والاعتدال فقد روي أنه جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يطلب منه بعيرا يحمله، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): ليس عندنا إلا ابن بعير فقال الرجل: أن متاعي ثقيل لا ينهض به ابن بعير، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو يبتسم: أوليس كل بعير ابن بعير؟ فضحك الرجل لهذه الدعابة، ومسك الختام قوله تعالى (إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد) سورة ق الآيتان 17 و 18.
بقلم : خالد غانم الطائي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى